أكدت المادة 116 من اتفاقية جنيف الرابعة (1949)، على حق أسرى الحرب في الحصول على زيارات عائلية بشكل متكرر “وخلال فترات منتظمة”، كما وتوضح قواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء (1977) في المادتين 37 و92، أنه يحق للأسير أن يبقى على اتصال مع عائلته أو أصدقائه ذوي السمعة الجيدة. خلال المراسلات أو من خلال استقباله للزيارات.
تمر لحظات الحجر الصحي المنزلي ثقيلة وبطيئة، كل شيء ممل ومزعج، كل ما نعرفه عن وضعنا الحالي مخيف، وكل ما لا نعرفه مقلق. نذكّر أنفسنا بأن نتصل بمن نحبهم، وأن نتفقد أصدقائنا، نحاول ألا نبقى وحيدين. وبينما نحن مشغولون بمحاولة ممارسة الحياة بشكل طبيعي قدر الإمكان، تنشغل أمهات الأسرى والأسيرات الفلسطينيات بمحاولة الاطمئنان على أولادهن وبناتهن في سجون الاحتلال الإسرائيلي، في ظل غياب وسائل الاتصال ومنع الزيارات.
منذ الإعلان عن الحالات الأولى للإصابة بفيروس كوفيد ١٩ في الضفة الغربية المحتلة اتخذت سلطات الاحتلال الإسرائيلي قراراً بمنع زيارات أهالي الأسرى الفلسطينيين، منذ الأسبوع الأول من شهر آذار- مارس حتى اشعار آخر. إجراء منع زيارات أهالي الأسرى والأسيرات الفلسطينيات قد يبدو للوهلة الأولى إجراء وقائياً لمحاولة منع انتشار وتفشي فيروس كوفيد ١٩، إلا أن المُطَّلع على وضع الأسرى الفلسطينيين وأحوالهم يعلم أن هذا الإجراء هو إجراء قمعي يساهم في التضييق على الأسرى ويزيد من سوء أوضاعهم. فبينما منعت سلطات الاحتلال الزيارات لم تحاول توفير أي وسيلة بديلة تتيح اتصال الأسرى والأسيرات مع العالم الخارجي، ولم تتح المجال للأسرى والأسيرات للاطمئنان على ذويهم وطمأنتهم عنهم. الزيارات أصبحت ممنوعة والاتصالات الهاتفية هي بالأساس ممنوعة إلا في حالات نادرة جدا.
الأسرى الفلسطينيون الذين أصبحوا معزولين عن العالم الخارجي بشكل شبه كامل، لم يتلقوا أي تسهيلات فيما يتعلق باتصالهم بذويهم، أصبحت الأخبار التي يتلقونها من عائلتهم شبه معدومة. أن تعرف أخبار عائلتك وكيف هي أحوالهم، وما هو وضعهم الصحي في ظل انتشار فيروس كوفيد ١٩ هي رفاهية غير متاحة للأسرى الفلسطينيين. بعض الأسرى لم يتمكنوا من معرفة خبر وفاة أحد اقاربهم أو أحد فراد عائلاتهم الا بعد أيام عديدة، بعضهم رزق بمولود جديد ولم يتمكن من معرفة ذلك إلا بعد مرور أكثر من أسبوع.
بينما يحاول العالم ممارسة حياته الطبيعية عن بُعد من خلال شبكات التواصل الاجتماعي وتطبيقات الانترنت، يُحرم الأسرى من الاستفادة من وسائل الاتصال حتى بأبسط أشكالها؛ إلا إذا كان الأمر يتعلق بمصلحة الاحتلال الإسرائيلي وبدوره كسجّان. حيث استمرت محاكم الأسرى الفلسطينيين في ظل فايروس كوفيد ١٩ من خلال الاجتماعات المرئية عبر تقنية الـ “video conference” بحيث يتم نقل الأسير الذي يجب أن يخضع للمحاكمة إلى غرفة مجهزة، ويتم عرضه على القاضي من خلال الفيديو المباشر. كل هذا يحدث بدون أن يحضر محامي الأسير، وبدون أن يسمح للأسير بالتواصل مع محاميه حتى من خلال الهاتف.
زيارة الأسيرات والأسرى الفلسطينيين لم تكن فقط فرصة لتواصل الأسرى مع ذويهم والاطمئنان، عليهم وفرصة للاتصال بالعالم الخارجي من خلالهم. بل كانت الوسيلة الوحيدة التي يمكن للأسرى من خلالها الحصول على ملابس موسمية جديدة. توقفت الزيارات في نهاية فصل الشتاء وها نحن نقترب من فصل الصيف ولم يتمكن الأسرى من الحصول على ملابس جديدة. ليس هذا فحسب بل إن الأسرى الجدد الذين قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي باعتقالهم منذ بداية شهر آذار لم يتمكنوا من الحصول على أي ملابس. يعتني الأسرى ببعضهم البعض ويقدمون ملابسهم للأسرى الجدد، ويتشاركون أغطية أسرّتهم، ولكن كيف إن كانوا لا يمتلكون من الملابس والحاجيات إلا أقل القليل.
بالإضافة إلى هذا كله فقد كانت الزيارات هي وسيلة لإرسال بعض النقود للأسرى من أجل استخدامها داخل السجون لشراء احتياجاتهم الأساسية، كبعض الأطعمة ومواد التنظيف والاحتياجات الشخصية. مع منع الزيارات وإغلاق مكاتب البريد الاسرائيلي ومكتب الارتباط الفلسطيني- الإسرائيلي لم يعد بإمكان الأهالي إرسال النقود لأبنائهم، مما ضاعف القلق لديهم. شعور مستمر بالقلق والضيق هكذا يصف الأهالي مشاعرهم عندما يتحدثون عن بناتهم وأبنائهم الأسرى. نحن لا نعرف أخبارهم، أوضاعهم سيئة بكل تأكيد، وكل ما كان يساهم في التخفيف عنهم هو اليوم ممنوع. ومن الجدير بالذكر أن إدارة السجون الإسرائيلية ومع بدء انتشار وباء “كورونا” كانت قد حدَّثت قائمة السلع التي يُمنع بيعها داخل “كانتينا” السجن، لتشمل مواد التنظيف والتعقيم، ومواد النظافة الشخصية، وعدد كبير من الأغذية التي تساعد على تقوية جهاز المناعة. بالتالي أصبحت المعادلة كما يلي، بينما نحن نحاول حماية أنفسنا، وبينما نخضع للحجر المنزلي الوقائي، وبينما نحرص على تناول الفيتامينات والأغذية التي تقوي جهاز المناعة، يحرم الأسرى الفلسطينيون من أي اجراء قد يضمن سلامتهم ويقيهم من العدوى أو يساعدهم على محاربة الفيروس في حال إصابتهم به.
أمهات الأسرى،أمومة مُحتجَزة
تتحدث الأمهات عن غربة الاعتقال التي لا تشبه أي غربة، عن كون أبنائهن مغيبين قسرياً عن كل شيء، وعن كونهن غريبات عن أمومتهن المحتجزة. عن أشكال أولادهن التي تتغير في كل مرة لا يزرنهم فيها، عن الزمن الثقيل، عن الأشهر التي تمر كسنين، وعن السنوات التي تترك أثراً أعمق في كل مرة. هل تعرفين ما معنى ألا تستطيع الأم ممارسة أمومتها، أن تكبح غريزتها المدفوعة بالخوف والقلق، ماذا يعني ألا نستطيع الاعتناء بأولادنا والاطمئنان عليهم. مجرد التفكير أن ابني قد يكون مريضا، وأنه قد لا يتلقى العلاج، مجرد التفكير في أن السجون المكتظة معرضة للعدوى بفيروس كوفيد ١٩ يصيبني بالذعر، نحن كأمهات محرومات من الاطمئنان على أولادنا وهذا موجع للقلب.
عندما منعت من زيارة ابني لأسباب أمنية، شعرت أن السنة عشر سنين. دائماً أتساءل عن شكل ابني ان تغير، أتساءل عن وزنه، اتخيل شكل لحيته وشعره. يخبرني هو أنه لم يتغير، ولكني أعرف أن شكله يتغير كثيرا، وأنني عندما أراه في المرة المقبلة سأحبس أنفاسي ودموعي لألا تظهر أمامه، لأني لن أعرفه للوهلة الأولى. اليوم أنا محرومة من زيارة ابني ومن معرفة أحواله مجددا، الشوق يزداد بل يتضاعف، كنا ننتظر الزيارة من الشهر للشهر، ونشعر أن المدة طويلة. الآن نحن ننتظر بشكل مستمر ونشتاق ونقلق، ولا شيء يمكنه أن يواسي قلوبنا، فقط أن نراهم، أن نراهم ولو من وراء الزجاج. الآن أفهم كم هو مهم ان انظر في عيني ابني عندما أزوره، مع أني كنت اتهرب من النظر في عينيه خلال الزيارة لئلا تهزمني دموعي أمامه.
الزيارات.. جزء من حريتنا التي لا نمتلكها
يصف الأسرى والأسيرات الزيارات بأنها موجعة، موجعة بقدر الشوق، موجعة بقدر التعب وموجعة بقدر الانتظار. لحظات اللقاء الأول التي تبدأ بابتسامات صامتة، ولحظات الوداع التي تتلعثم فيها الجمل مُخفية الدموع والصوت المخنوق. ولكن كيف تمر اللحظات على الأسيرات والأسرى وأهاليهم مع انقطاع الزيارات.
بالنسبة للأسرى والأسيرات فالزيارة مثل يوم العيد، “شعور غريب وكأننا نستعد للحرية، شعور ممزوج بالفرحة والحماس”. يحدثني أحد الأسرى الذين خرجوا من السجون الإسرائيلية منذ فترة قصيرة، ويضيف: “ترتبط تفاصيل حياة الأسرى والأسيرات بتفاصيل السجن المملة والمقيتة، كل شيء متعلق بكوننا مسجونين، السجان، “الأبراش”، “الفورة”، العد، حتى وجوه رفاقنا. ولكن وقت الزيارة، عندما يجيء الأهل، هذه اللحظة عندما نراهم، يصبح السجين حراً بالرغم من كل شيء. كأنك روحت مع أهلك لمدة ٤٥ دقيقة، كأنك كنت برا السجن لمدة ٤٥ دقيقة. عندما توقفت الزيارات شعرنا كأننا خسرنا جزء من حريتنا التي لا نمتلكها.
تخيلي أن تفقدي أحد من أفراد عائلتك ولا يتمكن أحد من اخبارك بهذا، تخيلي ان يصبح أحدنا اب ولا يعلم الا بعد اسبوع أو أكثر. وسيلة التواصل الوحيدة كانت الزيارة، خسرناها. الزيارات انقطعت فجأة والأحداث توالت بسرعة، نحن داخل السجن لا نعلم شيئا، لم نستطع أن نفهم ماذا يعني أن يجتاح وباء فيروسي العالم، لم نشعر بجدية الوضع إلا بعد أشهر. الوقت صار يمر بشكل ابطئ، لم نعد ننتظر أي شيء، الأسرى مشحونون، وجوّ السجن كئيب وسلبي. لم يعد أحد يحلق شعره، لماذا نحلق إذا كنا لن نرى أحد من الخارج وان كنا لا ننتظر الإفراج قريبا. الشعور موجع وأقل ما يمكن أن يقال عنه أنه يضيق الصدر.
عندما أفكر في كل ما كتبته في الاعلى، عندما اقرأ الكلمات المستوحاة من مشاعر أمهات أسرى أعرفهنَّ وأعرف أولادهن، أشعر أنه ليس من العدل أبداً أن نجلس نحن في بيوتنا نتذمر قلقا ومللا، بينما تُكوى قولب هؤلاء النسوة شوقاً وحسرة. ليس من العدل أن نمتلك كل سبل الراحة، أن تتاح لنا كل وسائل الاتصال، بينما يحرم قرابة ٥٠٠٠ أسير فلسطيني بينهم ٣٩ أسيرة من حق الاتصال بعائلاتهم، ومن حق تلقي الزيارة. كم تبدو بيوتنا البسيطة وغرفنا التي نتشاركها مع اخوتنا، ونوافذها التي تطل على الشوارع العامة والبنايات المتلاصقة، رفاهية بالنسبة لغرف الأسرى المكتظة والتي لا تسمح لأي شكل من أشكال التباعد الاجتماعي. في الحقيقة، نحن لا نملك أن نمنح قليلا مما لدينا لهم، لا نملك حتى أن نُطمأن قلب أم من أمهاتهم.
هذه الأزمة العالمية عرَّت حجم تأثير التفاوت الاجتماعي والاقتصادي على ظروف الحجر الصحي للمحجورين، على من يمرض ومن يموت، من هم الاكثر عرضة لأن تمسهم الكارثة بمختلف جوانبها. في قضية الأسيرات والأسرى الفلسطينيين يُحدث البعد السياسي عاملً فارقاً يَرسمُ الُمستَعِمرُ حجم تأثيره. فشلنا نحن في أن نحول قضية الأسرى إلى قضية حيّة في الأشهر التي مضت. حتى مع أخبار احتمالية إصابة بعض الأسرى بفيروس كوفيد ١٩، وعزلهم في ظروف تفتقر لأقل الشروط الصحية والإنسانية. فشلنا في دفع السلطة الفلسطينية للقيام بواجبها تجاه ٥٠٠٠ فلسطيني يواجهون احتمال العدوى والمرض كل الوقت. فشلنا حتى في مطالبة مؤسسات حقوقية تعنى بقضية الأسرى بشكل خاص “كاللجنة الدولية للصليب الأحمر في الأراضي المحتلة” في بذل الحد الأدنى مما يمكنها بذله، لتوفير وسائل اتصال بديلة عن الزيارات المتوقفة، أو حتى وسيلة لإدخال الملابس الضرورية. الصليب الأحمر لم يقم حتى بإرسال لجنة طبية لفحص ومتابعة أحوال الأسرى الذين تم عزلهم بسبب مخالطتهم لسجانين إسرائيليين مصابين، والذين من المحتمل أنهم أيضاً أصيبوا بالفيروس أيضا.
في النهاية سيعود العالم إلى طبيعته بشكل ما، أو سيخلق طبيعة جديدة تصبح الواقع الجديد. سنعود نحن إلى أعمالنا وحياتنا، وسنتعايش مع الواقع الجديد وإن كنا نجهل ماهيته الآن. وستبقى حكايا الأسرى الفلسطينيين الذين عاشوا فترة الحجر الصحي – عندما اجتاح “وباء الكورونا” العالم- في زنازين ضيقة ومكتظة ممنوعون من أن يكونوا حتى جزء مما يحدث مع العالم أجمع؛ ستبقى قصصهم التي ستتحول إلى طرائف يرونها بينهم، تشهد على قبح الاستعمار وعنصريته. وستبقى أوجاعهم وحرقة قلوب أمهاتهم شيئاً لن نفهمه نحن، ومهما حاولنا أن نبذل من مشاعر لن نصل اليه.
كتبت هذه المادة المدونة الفلسطينية تسنيم القاضي قبل اعتقالها بتاريخ ٥ أغسطس ٢٠٢٠ لصالح الفدرالية الدولية للحقوق والتنمية.